جذل قديم يتجدد: الفقر إرادة إلهية أو حرية إنسانية
قال أحد قيادي حزب الإخوان المسلمين في السودان المسمى عبد الله سيد أحمد، إن الفقر "قدر من الله" ولا يجوز أن نحاربه، متابعا حديثه أن من يسعى لمحاربة الفقر يعارض إرادة الله. أثار هذا التصريح استياء وجدلًا كبيرا في السودان، حيث اعتبر الكثيرون أن مثل هذه الأفكار تعكس مستوى الفهم السطحي للإشكالات الاجتماعية والاقتصادية من قبل القيادات الحاكمة، وتساءلوا عن قدرة مثل هؤلاء الزعماء على قيادة البلاد !
لكن هذا التصريح لا يمكن عزله عن
سياقه التاريخي والفكري الطويل في الثقافة الإسلامية، إذ يرتبط بمفهوم الجبرية، الذي
تأسس خلال العصر الأموي. هذه العقيدة تقول إن الإنسان لا يملك حرية الفعل أو
الإرادة، وكل ما يحدث هو نتيجة قدر الله الذي لا يمكن الهروب منه أو تفاديه.
الجبرية كأداة سياسية لتبرير الظلم
إن عقيدة الجبرية لم تكن فقد مجرد نقاش
لاهوتي، بل أضحت وسيلة لتبرير الحكم الاستبدادي عبر العصور. فقد رسخت هذه العقيدة أثناء
حكم الأموين، لتبرير سياساتهم القمعية، حيث تم تصوير الظلم كقدر إلهي لا يجب
معارضته. فالحكام الظلمة، وفقًا لهذا المفهوم، ليسوا سوى أدوات خلقتها إرادة الله،
وبالتالي فإن محاربتهم تعني محاربة القدر الرباني.
وفي إطار هذا الفهم، يفقد الإنسان
العادي أي إرادة أو قدرة على تغيير أوضاعه المزرية، مما يؤدي به الى حالة الاستسلام
والخنوع للواقع القائم. هذا المنطق استخدم كذلك في الديانات الأخرى، مثل
الهندوسية، لتبرير التمييز و الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، ويبرز من خلال المعاملة
الاقصائية لطبقة المنبوذين.
كارل ماركس والدين كـ "أفيون الشعوب"
المفاهم
السالفة الذكر كمثال، تفسر إلى حد كبير مقولة كارل ماركس الشهيرة بأن "الدين أفيون الشعوب". فالدين وفقًا لهذا المنطق، يتحول إلى وسيلة لسلب إرادة البشر
وتخديرهم، مما يمنعهم من الثورة على الظلم أو السعي نحو تغيير أوضاعهم. وقد لعبت
الكنيسة في العصور الوسطى في أروبا دورًا مشابهًا، عندما كانت تبرر ظلم الإقطاعيين
والملوك وتبيع صكوك الغفران للمعوزين و الفقراء مقابل وعود بالخلاص والجنة في الحياة الآخرة.
المعتقدات الدينية كقوة لتحرير الإنسان
رغم صحة
مقولة ماركس في سياقات معينة، لكن الأديان تحمل في جوهرها أيضًا طاقة تحريرية.
فالإسلام، في بداياته، جاء برسالة عدالة سياسية واجتماعية، وكان يدعو لتحريرالإنسان من الاستبداد والظلم. كما أن المسيحية شهدت في أمريكا الجنوبية ظهور
"لاهوت التحرير" في السبعينيات، حيث تحول الدين إلى وسيلة لتحرير الفقراء
والمستضعفين من هيمنة الأنظمة القمعية.
المعتزلة: العقل والحرية الإنسانية
وعند الرجوع الى التاريخ الإسلامي،
كانت هناك مدارس فكرية تقف في وجه الجبرية، أهمها المعتزلة. اعتقد المعتزلة بحرية إرادة
الانسان وأكدوا على العدل الإلهي. إذا كان الله عادلًا، فلا يمكن أن يُحَمِّل
الإنسان أفعالًا لم يكن له يد في اختيارها. وكان يرى المعتزلة أن الإنسان يمتلك
إرادة حرة، وله القدرة الكاملة على صنع أفعاله، وبالتالي هو مسؤول عنها وسيحاسب
عليها.
و انطلاقا من هذا المبدأ، رفض
المعتزلة فكرة أن الكفار مثلاً غير مسؤولين عن كفرهم بالدين لأن الله قد قدر لهم
ذلك. بل يرون أن لكل إنسان المقدرة على اختيار السبيل الذي يسلكه، وأن الله سيحاسبه
على ما فعل بإرادته الحرة.
ضرورة إصلاح الفكر الديني
مثل تلك
التصريحات التي أدلى بها القيادي الإخواني في السودان سالف الذكر، تعكس حالة
الجمود الفكري والتصلب التي أصابت العقل المسلم عبر القرون من الزمن بسبب هيمنة
العقيدة الجبرية. وهذا الجمود لم يقتصر فقط على الفكر الديني الإسلامي، بل امتد
إلى الحياة السياسية، حيث استعمل الدين كأداة لتبرير استبداد الحكام.
من هنا، فإن أي إصلاح حقيقي داخل
المجتمعات الإسلامية، لا بد أن يبدأ بإعادة إحياء الفكر الإسلامي القائم على حرية
الإرادة والمسؤولية الفردية. العقل يجب أن يستعيد مكانته في الفكر الإسلامي كما
كان الحال في القرن الرابع الهجري، حين بلغ المسلمون أوج إبداعهم الفكري والحضاري.
هل الانسان مخير أم مسيرفي هذه الحياة؟
رأيك يهمنا