فيودور دوستويفسكي، الأديب الذي أشرف على الموت لكنه عاد ليكتب روائع الادب العالمي

فيودور دوستويفسكي، الأديب الذي أشرف على الموت  لكنه عاد ليكتب روائع الادب العالمي

 وُلد فيودور في مدينة موسكو سنة 1821 في عائلة متواضعة، فوالده كان طبيبًا في مستشفى للمعوزين، ما جعله منذ نعومة أظافره يشاهد الألم والمعاناة الإنسانية، هذه المشاهد القاسية شكلت أساسًا متينا في كتاباته التي عبّرت عن الصراعات الوجدانية للبشر وعن  معاناة حياة البؤساء والمهمشين.

  كان فيودور طفلًا حساسًا، عاش طفولة مليئة بالذكريات الحزينة، بدأت بوفاة والدته عندما كان عمره خمسة عشر عامًا بمرض السل، ما شكل صدمة موجعة له، ولم تمهله الأقدار كثيرا  حيث لم  تمض سنوات قليلة حتى تُوفي والده بطريقة غير معروفة، يُشاع أنه قتل نتيجة صراعات عائلية، هذا الفقدان العائلي المتوالي جعل مشاعر الحزن والفقد تتعمق داخل روحه، وهو ما ظهر لاحقًا في رواياته التي امتلأت بالوحدة واليأس والصراعات الوجدانية.

وبالرغم أن فيودور درس الهندسة العسكرية تلبية لرغبة والده، رغم أن الأدب كان شغفه الوحيد، مند بداية شبابه انغمس في القراءة ومحاولات الكتابة، وفي عام 1846، نشر أول رواية له  تحت عنوان "الفقراء". كانت هذه الرواية بمثابة شهادة تثبت موهبته الأدبية الصاعدة، لاقت استحسانًا منقطع النظير من النقاد والقراء. تلك الرواية جسدت بؤس و معاناة  الفقراء، وهو التيمة التي لازمًت أعماله الأدبية اللاحقة.

 حياة دوستويفسكي كانت معاناة مستمرة. في سنة 1849، انخرط في مجموعة فكرية تتبنى الفكر الاشتراكي  حيث تعود أفراها مناقشة أفكارًا، العدالة الاجتماعية والحريات السياسية و حرية الصحافة، حيث م القبض عليه، وحُكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص، كان يعيش  حياته في السجن تحت وطأة الموت، وأمام عيناه شبح النهاية الوشيكة. ولكن في اللحظات الأخيرة قبل التنفيذ حيث اصطف الجنود، تم إيقاف تنفيذ الحكم بسبب صدور  العفو ، وتم تغير الحكم إلى النفي إلى غياهب سيبيريا. تجربة الموت الوشيك تلك، والنفي، كان لهما أثر عميق عليه، في معتقله في سيبيريا، عاش أربع سنوات في الأشغال الشاقة، وهي فترة مروعة جسدت جزءًا كبيرًا من معاناته، لكن رغم ذلك، استمر في التأمل والكتابة، محولًا آلامه إلى إبداع استثنائي.

تجربة السجن وقرب الموت لم تكن سوى البداية، بعد خروجه من السجن، عاد إلى الوطن واستمر في  الكتابة، رغم المصاعب التي واجهها، كتب دوستويفسكي في هذه الفترة واحدة من أعظم  أعماله الأدبية، حيث تم نشر في عام 186 روايته "الجريمة والعقاب"، التي تعتبر  إحدى أعظم روائع الأدب العالمي. كشف دوستويفسكي في هذه الرواية الصراع النفسي لشخصية بطل العمل راسكولينكوف، وهو شاب معدم يرتكب جريمة قتل بدافع اليأس والفقر، الرواية تتناولت بشكل عميق أفكار مثل العدالة والذنب والخلاص، وهي الثيمات التي أصبحت محورية في جميع أعمال دوستويفسكي.

                                                                              عان دوستويفسكي من المرض المزمن و الادمان على القمار رغم نبوغه الادبي

رغم النجاح الأدبي الذي حققه، لم تصبح حياة دوستويفسكي خالية من المعاناة. عانى من إدمان القمار، ما أدى إلى تفاقم مشاكله المالية، دائما ما كان يجد نفسه غارقًا في الديون، اضطره ذلك في بعض الأحيان لبيع ممتلكات زوجته لتسديد ديونه. هذا الإدمان جعل حياته الأسرية مضطربة، وخاصة مع زوجته الأول ماريا إيسايفا.

وبعد وفاة زوجته الأولى، تزوج دوستويفسكي مرة أخرى من آنا دوستويفسكايا، التي كانت تصغره كثيرا في السن. كانت هذه الزيجة بمثابة نقطة تحول في حياته، كانت الشابة آنا سندًا قويًا له، وساعدته بشكل كبير في إدارة شؤونه المالية وعمله الأدبي، ورغم إنجازات الأدبية الكبيرة، إلا أن صحته بدأت تتدهور بشكل تدريجي، ملحوظ، عانى من نوبات صرع متكررة، وكان يشعر بالألم و الاكتئاب بسبب فقدان ابنه الأصغر، أليكسي، الذي توفي هو الاخر بنوبة صرع.
     
دوستويفسكي عاش حياة مليئة بالألم والصراعات الشخصية، لكنه حول هذه المعاناة إلى إبداع أدبي خالد. أعمال دوستويفسكي كانت وما زالت مرآة للجنس البشري، حيث عكست مشاعر الضعف والقوة، والأمل واليأس. من خلال رواياته "الإخوة كارامازوف" و"الشياطين"، ترك لنا أعمالا أدبية خالدًة تجسد الصراع الأبدي بين الخير والشر في النفس البشرية، هذه الروايات ليست مجرد حكايات مرتبطة بالزمان و المكان، بل هي دعوة للتأمل في معنى الحياة ومحاولة للبحث عن الخلاص في عالم مليء بالألم.  

                                                                            توفي دوستويفسكي في سانت بطرسبرغ لكن روحه لازالت حية في اعماله الادبية

    في عام 1881، وبعد حياة مليئة بالإبداع والصراع، توفي فيودور دوستويفسكي عن عمر يناهز 59 عامًا، بعد تعرضه لنزيف رئوي حاد. حتى في لحظاته الأخيرة، ظل متمسكًا بإيمانه بالكتابة كوسيلة للتعبير عن المعاناة والبحث عن الحقيقة، دفن في مقبرة تيخفين بدير ألكسندر نيفسكي في سانت بطرسبرغ، حيث يرقد جسده بسلام، لكن روحه تظل حية في أعماله الأدبية.



تعليقات